الشمس تروي ظمأ ديالى وتعيد الأمل لمزارعيها

استبرق الزبيدي
لم يعد المزارع وسام عبد الكريم قلقاً وهو ينتظر عودة التيار الكهربائي أو يتحمل تكاليف الوقود وصيانة المولدة الكهربائية عندما يحين موعد سقي أشجار الرمان والتين والزيتون والسدر والتفاح وأنواعًا نادرة من النخيل المزروعة على مساحة 50 دونماً في قرية الحديد بقضاء الخالص في ديالى.
قبل خمس سنوات اتخذ وسام (35 عاماً) قرارًا بالتحول نحو الطاقة النظيفة لتوليد الكهرباء، ووجّه ألواحًا شمسية عديدة نحو السماء تستقبل أشعة الشمس القاسية لتحولها إلى مصدر للطاقة، ومنذ ذلك اليوم تتنعم مزرعته بالاستقرار وانتظام مواعيد الري.
يقول وسام لـشرق العراق وهو يلف الشماغ حول رأسه لتجنب الحرارة التي تلامس الـ 50 درجة مئوية:
“كانت أكبر مشاكلنا الكهرباء والماء، الكهرباء الوطنية غير مستقرة ولا تكفي لري المزرعة، وتكاليف الوقود وصيانة المولد مكلفة”.
طيلة السنوات الخمس الماضية يعتمد وسام على ألواح الطاقة الشمسية بدلاً من الكهرباء، وعلى أنظمة ري متطورة تعتمد السقي بالرش، في تجربة حول فيها حرارة الشمس الحارقة من عبء ومعاناة إلى مصدر طاقة مستدام ومنخفض التكلفة.
في محافظة ديالى، حيث تشكل الزراعة عصب الحياة الريفية، يعيش المزارعون تحت وطأة تحديات متفاقمة: انقطاعات مزمنة في الكهرباء، شح متزايد في المياه، وارتفاع مستمر في تكاليف التشغيل. بالنسبة لوسام فقد وجد في الطاقة الشمسية نافذة أمل لإعادة الحياة إلى مزرعته.
أزمات تحيط بالزراعة
منذ أكثر من ثلاثة عقود يعاني العراق من تراجع في تأمين التيار الكهربائي وتذبذب في الفولتية، ويزداد ذلك مع ارتفاع درجات الحرارة. في الوقت نفسه يُصنّف العراق من أكثر بلدان العالم المهددة بتأثيرات التغير المناخي، ومنذ سنوات أصبحت شحة المياه مشكلة مألوفة للزراعة العراقية.
يعاني وسام والمزارعون الآخرون من كلا المشكلتين في وقت واحد، فشحة المياه دفعته إلى حفر بئر ارتوازي عميق بكلفة 15مليون دينار، مما يتطلب طاقة كهربائية أكبر لسحب المياه من قاع البئر وضخها عن طريق المرشات، حيث لم تعد طرق الري بالسيح ممكنة في ظل استنزاف الموارد المائية.
الضغط الهائل على منظومة الكهرباء الوطنية خلال الصيف أدى إلى خفض حصة ديالى من الطاقة الكهربائية من 1200 ميغاواط إلى 800 ميغاواط فقط حسب ما ذكر محافظ ديالى، وهذه الكمية تكفي لتزويد المواطنين بساعة ونصف تشغيل غير مستقر مقابل 3 ساعات انقطاع كامل.
ويرى المحافظ أن الحل للخروج من هذه الأزمة المتكررة هو التحول للطاقة النظيفة، مؤكدًا تخصيص أراضٍ للاستثمار في توليد 870 ميغاواط من الطاقة الشمسية، لكنه بيّن أن الإجراءات الروتينية وانشغال الحكومة المركزية بمشاكل المحافظات الأخرى قد يؤخر عجلة العمل وإنجاز المشروع.
ويأتي ذلك في وقت تتحدث التقارير الرسمية العراقية عن خطة لإنتاج 12 غيغاواط بالاعتماد على الطاقة الشمسية بحلول عام 2030.
الحل يأتي من الشمس
بالنسبة لوسام لم ينتظر الحلول الحكومية، فقد أنقذ مزرعته من عطش محتم وأنعش فيها الحياة مجددًا.
مصطفى الجبوري، مزارع آخر في أطراف المقدادية يستخدم حاليًا الطاقة الشمسية، يقول عن تجربته إنها مفيدة جدًا، ليس بسبب الجدوى الاقتصادية فقط، بل لأنها سهلة الاستخدام ولا تحتاج إلى أيدٍ بشرية عند تشغيلها.
كما أن المنظومة التي يستخدمها كانت رخيصة الثمن لأنها مصممة خصيصاً للاستخدام الزراعي، فهي لا تحتاج إلى بطاريات، مما يجعلها أقل ثمناً مقارنة بتلك المخصصة للاستخدام المنزلي.
يلجأ مزارعون آخرون في ديالى للاعتماد على التقنيات الحديثة في مواجهة الجفاف وتراجع نسب المياه. ويقدّر رئيس الجمعيات الفلاحية في ديالى تزايد نسبة الاعتماد على الطاقة الشمسية في توليد الكهرباء للمناطق الزراعية بنحو 10% سنوياً.
ولا تتوفر لدى دائرة زراعة ديالى إحصائية دقيقة بذلك، لكن محمد المندلاوي مدير الإعلام في زراعة ديالى يشير إلى تزايد الاعتماد على الطاقة النظيفة.
“كانت فواتير الكهرباء الوطنية وتكلفة الوقود والصيانة الدورية للمولد الكهربائي تصل شهرياِ ما بين 700ألف إلى مليون دينار، أما بعد استخدام الطاقة الشمسية استغنيت بشكل كامل عن المولد وانخفضت الفواتير الشهرية إلى 100ألف دينار فقط”، يقول وسام لـشرق العراق.
الأسعار تنخفض
يتزامن التوجه نحو الطاقة المتجددة في العراق مع تفاقم تأثيرات التغير المناخي واستمرار الضغط على الطاقة الكهربائية، بالإضافة إلى تراجع أسعار ألواح الطاقة الشمسية التي انخفضت بنسبة 60% تقريباً خلال خمس سنوات كما يقول أستاذ الهندسة الكهربائية في جامعة ديالى الدكتور زياد عاصي.
ويشير إلى أن اللوح الواحد انخفض سعره من 500ألف دينار قبل خمس سنوات إلى نحو 125 ألف دينار حالياً وبسعة أعلى.
عالمياً، تشير بيانات الوكالة الدولية للطاقة المتجددة (IRENA) إلى أن تكلفة إنتاج الألواح الشمسية انخفضت بنسبة 85% بين عامي 2010 و2020
تمتاز منظومات الطاقة الشمسية في المجال الزراعي برخص الأسعار مقارنة مع الاستخدام المنزلي، بسبب استخدامها نهاراً فقط ومن دون الحاجة إلى بطاريات لتخزين الطاقة بعد غياب الشمس.
يقول الدكتور زياد عاصي إن أسعار المنظومات الزراعية حاليًا “تتراوح بين 4000 إلى 500 ألف دينار للكيلوواط الواحد، أما إذا كانت المضخة10 كيلوواط، فالكلفة بين 4 إلى 5 ملايين دينار، وتختلف كلفة الاسترداد حسب توفر الكهرباء الوطنية.”
ويرى أن الطاقة الشمسية تُعد من أكثر الأنظمة جدوى اقتصادية على مستوى العالم، خصوصًا في المجال الزراعي، وتصنف كمصدر طاقة مجاني على المدى الطويل. ويضيف: “لأن المضخات الزراعية تعمل بنظام ثلاثي الأطوار (ثري فيز) فهي لا تحتاج إلى بطاريات، وتعمل فقط أثناء النهار، مما يجعل الكلفة التشغيلية قريبة من الصفر، أما كلفة التنصيب فهي تُسترد عادة خلال سنة ونصف إلى سنتين، في حين يمتد عمر الألواح إلى 25 سنة.”
كما يرى ضرورة تفعيل دور الجامعات، وخصوصاً جامعة ديالى، لأداء دور أكبر في دعم هذا التحول من خلال الأبحاث والدراسات والندوات.
جدوى اقتصادية أعلى
تُظهر دراسات الوكالة الدولية للطاقة المتجددة أن أنظمة الطاقة الشمسية للري تسهم في تحقيق استدامة طويلة الأمد للزراعة، وتقلل من الاعتماد على الوقود الأحفوري، وتخلق فرصاً اقتصادية للمزارعين في المناطق الريفية. كما تؤكد أن انخفاض أسعار الألواح الشمسية عالمياً جعل هذه التقنية أكثر إتاحة وجدوى في البلدان النامية، مثل العراق.
في العراق، أجرى الباحثان يسرى البجاري وجاسم محمد ذياب دراسة تحليلية في قضاء الحويجة لمقارنة أنظمة الري بالطاقة الشمسية والتقليدية، وتوصلت الدراسة إلى نتائج مذهلة لصالح الري باستخدام الطاقة الشمسية.
وتكشف الدراسة التي أجرت مسحاً ميدانياً على 100 مزرعة قمح مقسمة بالتساوي بين النظامين عن تفوق نظام الري الشمسي بشكل كبير على النظام التقليدي من حيث صافي الدخل، ونسبة التكلفة إلى الربح، وعائد الاستثمار، بالإضافة إلى ما يوفره من تكاليف تشغيل أقل واستدامة بيئية أكبر.
وجدت الدراسة أن التكلفة الإجمالية للدونم الواحد تبلغ 295 ألف دينار عند استخدام الطاقة الشمسية مقابل 480 ألف دينار للنظام التقليدي، أي أن تكاليف التشغيل تنخفض بنسبة 38.5%
ويبلغ صافي الدخل 625 ألف دينار/دونم في النظام الشمسي مقابل 415 ألفاً في التقليدي.
كما أن فترة الاسترداد عند استخدام الطاقة النظيفة تبلغ 3.8 سنة للطاقة الشمسية مقابل 6.2سنة للطاقة التقليدية، وإجمالاً تقول الدراسة إن العائد على الاستثمار يبلغ 47.8%للطاقة الشمسية مقابل 29.6% للتقليدية.
وعلى المستوى البيئي فقد وجدت الدراسة أن مزارع القمح المعتمدة على منظومات الطاقة الشمسية أقل تلويثًا للهواء بنسبة 75%, بمقدار 0.4 طن سنويًا من انبعاثات الكاربون مقابل 1.6طن في المزارع التقليدية.
وعبر 79% من مستخدمي النظام الشمسي عن استقرار التشغيل مقارنة بـ 42% فقط في النظام التقليدي.
وشملت الدراسة مزارع قضاء الحويجة لأنها تمثل تجربة رائدة في استخدام الطاقة الشمسية، إذ تحول 90% من سكان القضاء لاستخدام الطاقة الشمسية بعد معاناة استمرت لسنوات من غياب الكهرباء الوطنية، بحسب حسن الجبوري أحد أصحاب شركات بيع ألواح الطاقة الشمسية في المحافظة.
وأضاف خالد الجبوري أحد سكان الحويجة: “في منطقته تقريبًا 250 منزلاً يستخدمون الطاقة الشمسية، وتدريجياً أتوقع أن تتحول المنطقة كاملة لاستخدام الطاقة المتجددة، وقد تم رفع معظم المولدات الأهلية بعد استغناء الأهالي عنها.”
ما الذي يعيق الطاقة المتجددة؟
مثلما تدفع ظروف الجفاف وتردي الطاقة الكهربائية المزارعين نحو الطاقة الشمسية، ثمة معرقلات عدة تعيق هذا التوجه رغم إثبات نجاحه وجدواه الاقتصادية.
فصغار المزارعين يواجهون مشكلة ضعف التمويل وعدم القدرة على الاستثمار الفوري في التحول نحو الطاقة المتجددة، فعلى الرغم من انخفاض أسعار الألواح تبقى الكلفة الأولية مرتفعة.
يمنح البنك المركزي قروضاً بفائدة منخفضة للمواطنين لشراء الألواح الشمسية، كما أطلقت الحكومة العراقية ومنظمة الأغذية والزراعة (الفاو) في أيار الماضي مشروعًا بقيمة 39 مليون دولار لتعزيز القدرة على مواجهة التغير المناخي وبشكل خاص لتطوير الزراعة ومواجهة الجفاف في محافظات جنوب العراق.
لكن حتى القروض التي وفرتها الحكومة لشراء المنظومات الشمسية يرى المزارعون أنها” غير مجدية كثيراً بسبب فائدتها التي تصل إلى 7% من قيمة القرض”، مثلما حصل مع المزارع وسام الذي فضل شرائها بجهد ذاتي.
ويشير خبير الطاقة الدكتور زياد عاصي إلى عوامل أخرى قد تعيق المزارعين، تتمثل بحاجة الألواح إلى بعض العناية إذ إن كفاءتها تتأثر بالغبار، فالمعروف عن طقس العراق أنه كثيراً ما يتعرض لعواصف ترابية، لذلك تحتاج الألواح إلى تنظيف دوري. كما أن درجة الحرارة المرتفعة تقلل من كفاءة التوليد، على عكس ما هو شائع.
ويشير عضو مرصد العراق الأخضر المعني بحماية البيئة عمر عبد اللطيف لـشرق العراق إلى وجود صعوبة في تغيير عقلية المزارع العراقي وربطه بالتكنولوجيا الحديثة، إذ يرى أن “المزارع العراقي لا يزال لا يهتم بالتطور الحاصل في العالم كاستخدام الطاقة الشمسية واستخدام المرشات في الزراعة من أجل تقليل هدر المياه”.
ويرى أن نسبة المزارعين المستخدمين للطرق الزراعية الحديثة في العراق لا تتجاوز 10%
ويؤكد عبد اللطيف أن التقنيات الحديثة تمثل المستقبل للحصول على محاصيل نقية ذات جودة عالية ووفرة أكبر: “فمثلًا الكثير من الشركات التي انتشرت في بغداد والمحافظات لتركيب منظومات الطاقة الشمسية توفر إمكانية توقيت عمل الأنظمة وجدولتها للرش والسقي حتى في المساء”.
يتواصل المرصد مع الحكومة العراقية ووزارتي الزراعة والموارد المائية، ويأمل أن تشهد المرحلة القادمة إجراءات من مجلس الوزراء تشجع وتسهل استخدام الطاقة الشمسية، ليس فقط في المنازل، وإنما أيضاً في المجال الزراعي.
المزيد من الاستثمار
في مزرعته، لا يخطط المزارع وسام لاستخدام الطاقة الشمسية للري فقط، بل بدأ بإنشاء بحيرة أسماك صغيرة ويعمل على مشروع ترفيهي ضمن المزرعة سيكتمل في المستقبل القريب.
فتحت الطاقة النظيفة والتقنيات الحديثة للري الباب على المزيد من الأفكار الاستثمارية. “أريد توسيع استخدام الطاقة الشمسية في مجالات أكثر”، يقول وسام المزارع الذي استطاع التكيف مع تحديات التغير المناخي وتذبذب الطاقة الكهربائية بشكل مبكر، ولمس تأثيرها على ما تنتجه مزرعته من فواكه متنوعة.
لم تكن الطاقة المتجددة وحدها ما ساعده على النجاح، ففي وقت مبكر من كل يوم يتنقل داخل دوامنه الخمسين لحرث الأرض أو مراقبة الأشجار أو قطف ثمارها أو تفقد المرشات، مرتدياً ملابسه الفضفاضة التي يتحدى بها حرارة الصيف القاسية.
هذا التقرير معد كمشروع تخرج من دبلوم صحافة المناخ الذي تنظمه مدرسة المناخ بالتعاون مع غرينبيس الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وشبكة الصحفيين الدوليين.