
أحمد نجم
شكلت مجالس المحافظات لأول مرة عام 2009 بعد اقرارها دستوريا كوسيلة من وسائل الادارة اللامركزية للمحافظات لكنها ظلت على علاقة متوترة مع المواطنين الذين نظروا لها منذ البداية كحلقة زائدة في تراتبية السلطات رغم اهمية المجالس في الرقابة والتشريعات المحلية.
وبسبب تلك العلاقة الفاقدة للثقة كانت المجالس اولى ضحايا النظام السياسي عندما تعرض في تشرين 2019 لأكبر احتجاجات في تاريخ العراق واصدر البرلمان العراقي قرارا بحل مجالس المحافظات المنتهية الشرعية اساسا (لعدم اجراء الانتخابات المحلية عام 2017)، قبل ان تنقض المحكمة الاتحادية لاحقا القرارات البرلمانية وتعيد الشرعية لعمل مجالس المحافظات من خلال اجراء الانتخابات المحلية اواخر عام 2023.
غياب الشفافية
البحث عن الأرقام والبيانات والإحصاءات في معظم مؤسسات الدولة العراقية مهمة شاقّة، لسببين:
الأول، أن معظم تلك المؤسسات لا تعير الأهمية اللازمة للأرقام والخطط والبيانات، بقدر ما تعتمد على الارتجال والتوافق في اتخاذ القرارات.
والسبب الثاني، لأنها تُحيط تلك الإحصاءات – إن وُجدت – بنوع من السرية والغموض، يُخالف مبادئ الشفافية وحرية الحصول على المعلومة.
ولا نعلم على وجه التحديد لأيٍّ من السببين اختار المجلس إخفاء بياناته؛ فلا موقعًا رسمياً يضم أرشيفه، ولا تقريراً دورياً يوضّح نشاطاته الرسمية، ولا تُنشر نصوص قرارات المجلس أمام الرأي العام. كما أن مدير إعلام المجلس امتنع عن الرد على الاستفسارات، وكذلك فعل رئيس المجلس. وللمجلس صفحة رسمية غير موثقة، على موقع “فيسبوك”، يُنشر فيها أخبار مقتضبة عن جلساته وزيارات أعضائه للمؤسسات التنفيذية. وفي أخبار الجلسات كثير من التكرار وقليل من الشفافية، كما أن جلسات المجلس، التي وصلت لغاية شهر حزيران الحالي إلى 30 جلسة، ليست جميعها منشورة على الصفحة الرسمية؛ إذ تغيب الجلسات المرقّمة (13، 15، 16، 20، 30).

تُعقَد جلسات المجلس في قاعة صغيرة تضم عدّة طاولات بسيطة مُصففة بشكل مستطيل، يجلس الأعضاء حولها، وغالباً ما يقف خلفهم عشرات الأشخاص من غير الأعضاء، وترتفع الكثير من الهواتف في اللحظة نفسها للتصوير، في مشهد غير مألوف في الاجتماعات الرسمية، وصورة تعكس نوعاً من الفوضى يُحيط بعمل المجلس. إذ كيف يمكن للإنسان أن يُناقش بارتياح، وأن يُفكر بطريقة منظمة في قاعة تحيط بها الفوضى من كل جانب؟
وتشير البيانات الرسمية للمجلس إلى أنه عقد، لغاية 25/6/2025، نحو 30 جلسة خلال 509 أيام من عمره، بمعدل جلسة واحدة كل 17 يومًا.
تكلفة الجلسة الواحدة؟
يبلغ عدد أعضاء المجلس 15 عضواً، يتقاضى كلٌّ منهم راتباً شهرياً يتراوح بين مليونين ومئتين وخمسين ألف دينار إلى مليونين ونصف، بحسب ما ذكرت عضو المجلس دُريا خير الله.

كما أن لكل عضو مجلس نحو أربعة أفراد كحماية، وعدد غير محدد من الموظفين المدنيين الذين يُنتدبون من دوائرهم الأصلية إلى مكاتب أعضاء المجلس. ويُضاف إلى ذلك تكاليف الوقود والضيافة وأيّة صرفيات أخرى.
ولا يقل مجموع ما يُصرف شهرياً على كل عضو – من رواتبه، ورواتب حمايته، وموظفي مكتبه، ونثرياته الأخرى – عن 10 ملايين دينار. فإن صحّ ذلك، فهذا يعني أن مجموع المبالغ المصروفة على الأعضاء منذ بداية الدورة الحالية يبلغ مليارين وأربعمائة مليون دينار.

أما الانتخابات التي جرت في 18/12/2023، فقد كلفت الدولة 150 مليار دينار في عموم العراق، بما يمثل نحو 8 مليارات دينار لتنظيم الانتخابات في ديالى لدورة انتخابية يُفترض أن تستمر أربع سنوات. وبتقسيم المبلغ على السنوات الأربع من عمر المجلس، يتضح أن العام والنصف من عمر المجلس الحالي قد كلّف نحو 3 مليارات دينار.
وبذلك، فإن المبلغ التقريبي لما صُرف على المجلس – كرواتب الأعضاء، وحمايات، وموظفين، ونثريات، وتكاليف إجراء الانتخابات – لمدة سنة ونصف فقط، هو نحو 5 مليارات و400 مليون دينار.
مما يعني أن الجلسة الواحدة من جلسات المجلس الثلاثين تكلّف 180 مليون دينار.

وأن رفع الأيدي للتصويت على قرار واحد من قرارات المجلس، البالغ عددها 72 قراراً، قد كلف 75 مليون دينار، بما في ذلك القرارات الداخلية مثل تشكيل اللجان، وانتخاب الرئيس، وإقالته، وانتخاب المحافظ، ونوابه ومعاونيه.
مدراء بلا خدمة وظيفية
ولعل أبرز ما نجح فيه المجلس خلال العام والنصف هو تغيير مدراء الوحدات الإدارية (القائمقامين ومدراء النواحي)، الذين استمر بعضهم في المنصب لأكثر من عشرين سنة.
غير أن حسم هذا الملف قد تم باختيار بعض البدلاء على أساس صِلة القرابة بأعضاء المجلس، أو وفقاً للمحاصصة الحزبية والطائفية، فيما اختير البعض الآخر كتعويض عن خسارتهم في الانتخابات.

ويقول عضو المجلس فارس مزاحم الجبوري: “لقد استعجلنا في استبدال مدراء الأقضية والنواحي، وكانت خطوة سلبية، لأن البدلاء لا يمتلكون المواصفات المطلوبة لهذه المناصب.”
ويرى الجبوري أن نحو ثلث مدراء الوحدات الإدارية الجدد يجب أن يُغادروا مناصبهم، إما بسبب الشهادة، أو العمر، أو سنوات الخدمة.
ويقول إن: “أحد نواب المحافظ المصوَّت عليهم ليست لديه يوم واحد في الخدمة الوظيفية.”
لم يُصوّت الجبوري على هذه القرارات، ويقول إنها تمّت بتوافقات سياسية لم تأخذ بعين الاعتبار السياقات الإدارية والوصف الوظيفي.
ويقول الناشط السياسي مهدي شعنون في حديث لشرق العراق: “إن اختيار رؤساء الوحدات الإدارية جرى لصالح أقارب الأعضاء والنواب، مما أعطى انطباعاً للشارع المحلي بأن المجلس يعمل على تقوية وترسيخ نظام العوائل، وبالتالي فقدان الثقة بهذه المؤسسة التي يُفترض أنها تمثل أطياف ومناطق محافظة ديالى“.
“قرارات على الورق فقط“
وبالعودة إلى قرارات المجلس، التي يُكلِّف كلٌّ منها 75 مليون دينار، فإن معظمها غير مُعلَن للرأي العام، وللمواطنين بوصفهم مصدر شرعية المجلس.
والمعلومات المتاحة في الصفحة الرسمية للمجلس تشير إلى الكثير من القرارات التي جرى اتخاذها دون تنفيذها على أرض الواقع، مما يفتح باب التساؤلات حول مصداقية تلك القرارات وفاعليتها، وقدرة المجلس على متابعة تنفيذ قراراته.
ولم يرد مدير إعلام المجلس على تساؤلاتنا بخصوص اختفاء أخبار خمس جلسات لم يرد ذكرها في الصفحة الرسمية للمجلس، ولا عن التقرير السنوي لنشاط المجلس، ولا عن نسبة التنفيذ الفعلية للقرارات التي اتُّخذت.
- ففي الجلسة الرابعة المنعقدة بتاريخ 5/8/2024، أعلن المجلس عن تشكيل لجنة تدقيقية لجميع المشاريع المنفذة ابتداءً من 5/2/2024 ولغاية تاريخ انتخاب المحافظ الجديد، إلا أن المجلس لم يُعلن لاحقاً نتائج عمل اللجنة، ولم يتخذ قرارًا علنيًا بذلك.
- وشهدت الجلسة الخامسة بتاريخ 13/8/2024 استضافة مدير بلدية بعقوبة بشأن تخصيص قطع الأراضي لشرائح الجرحى وذوي الشهداء، ولغاية إعداد هذا التقرير لم يتم تنفيذ القرار.
- وفي الجلسة السابعة بتاريخ 27/8/2024، استضاف المجلس محافظ ديالى ومديري التخطيط العمراني وبلدية بعقوبة بشأن الأراضي المحجوزة منذ عام 2014، ولم يظهر حتى اللحظة ما يشير إلى حسم الموضوع.
- أما في الجلسة التاسعة، فقد صوّت المجلس على إطلاق 7484 درجة وظيفية، والتي كانت تنتظر الإعلان عن المقبولين فيها منذ أكثر من سنة. لكن الإعلان الرسمي عنها من قبل ديوان المحافظة لم يحدث إلا في نهاية شهر آذار الماضي، أي بعد 6 أشهر من قرار المجلس.
- كما صوّت المجلس في جلسته السابعة والعشرين بتاريخ 28/4/2025 على إعفاء معاون المحافظ أثير السامرائي، لكن الأخير ما زال مستمرًا في منصبه حتى الآن.
- وكان آخر قرارات المجلس المُعلنة هو إلزام محافظ ديالى بالتوقيع على محضر توزيع 800 قطعة أرض في منطقة نهر الشيخ ببعقوبة لشريحة الجرحى وذوي الشهداء، ولم يُنفذ ذلك أيضاً.
- ولم يُنفذ قرار المجلس المُتخذ في جلسته الثانية والعشرين بخصوص تحديد أجور ساحة وقوف السيارات.
- كما لم يُطبَّق نظام العدّادات للمولدات الأهلية ابتداءً من عام 2025، مثلما أعلن المجلس في جلسته الثامنة بتاريخ 3/9/2025.

يقول الجبوري إن جميع القرارات لم تُنفذ، ويعزو ذلك إلى الجهة التنفيذية: “لأنها تعرف أن المجلس لا يستطيع محاسبتها بسبب التوافقات السياسية.”
ويرى أيضاً أن القيود السياسية والضغوط من قادة الأحزاب في بغداد تحول دون تحرر المجلس، كما يُعيد المشكلة إلى هيئة الرئاسة التي أصرت على الاستمرار وتعطيل عمل المجلس، رغم تصويت 12 عضوًا على إقالة الرئيس.
زيارات بلا نتائج
وللمجلس جناحٌ آخر غير التشريع، وهو الرقابة، وقد أجرى المجلس استجواباً واحداً فقط لمدير عام تربية ديالى بتاريخ 8/10/2024، بالإضافة إلى استجواب رئيس المجلس.
ومع ذلك، هناك دور ميداني نشط لمعظم الأعضاء من خلال الزيارات الميدانية، لكن هذا الدور لا يوازي حجم مسؤولية المجلس وتأثيره.








ويرى الناشط مهدي شعنون أن الجزء الأكبر من نشاط الأعضاء غير حقيقي.
“أغلب تحركاتهم هي زيارات روتينية، يكتفي خلالها العضو بالمعلومات المقدمة شفهياً من مدير الدائرة، لا بيانات، ولا قوائم حسابات، ولا تفاصيل. بالتالي، هذه الزيارات لا تدخل ضمن الدور الرقابي. وبعضها يأتي لمصالح خاصة أو لأغراض انتخابية. الدور الحقيقي لعضو المجلس هو أن يكشف الخلل، ويُشخّص المشكلة، ويراقب الأداء التنفيذي، ويُشرّع القوانين التي تخدم المواطنين. وكل ما عدا ذلك هو مجرد استعراض إعلامي”، يقول شعنون لشرق العراق.
مجلس بثلاث رؤساء
منذ نهاية آذار الماضي وحتى منتصف أيار، كان هناك شخصان يحملان صفة رئيس المجلس؛ إذ استمر عُمر الكروي بحمل صفة رئيس المجلس مستندًا إلى قرار محكمة القضاء الإداري، فيما حمل نزار اللهيبي الصفة ذاتها مستنداً إلى شرعية تصويت الأعضاء له.
وفي تلك الفترة أيضاً، خُوّل نائب رئيس المجلس سالم التميمي بمهام وصلاحيات الرئيس، وهي حالة نادرة وضعت وسائل الإعلام والمراقبين في حيرة.



ويُفترض أن الصراع القانوني قد حُسم عندما أصدرت المحكمة الإدارية قراراً بتاريخ 12/5/2024 ببطلان إجراءات إقالة رئيس المجلس، لكن المجلس ظل معطّلًا وبلا جلسات حتى الآن.
أما الصراع على رئاسة المجلس، فهي قصة طغت على كامل عمل المجلس منذ تاريخ 29/10/2024، حين عقد المجلس جلسة طارئة برئاسة نائب الرئيس وصوّت على إعفاء الرئيس من منصبه، ثم عاد بأمر ولائي بعد أيام.
ثم جرى استجواب رئيس المجلس في 23\3\2025، وتم التصويت على إعفائه وانتخاب نزار اللهيبي بديلاً عنه، قبل أن يحصل الكروي على أمر ولائي جديد بإيقاف الإجراءات المتخذة في جلسة الإقالة، ثم قرار نهائي بعدم قانونية إقالته.
الثقة تقل
شهدت الانتخابات المحلية لعام 2023 في ديالى مشاركة نحو 43% من الناخبين، وهي أقل نسبة مشاركة في الانتخابات التي جرت بعد عام 2003.
ونِسب المشاركة التي تتناقص تدريجياً عاماً بعد آخر، من المتوقع أن تنخفض أكثر، نتيجة التخبط في أداء المجلس وتعطيله لأشهر طويلة، والصراعات الداخلية على قيادته؛ مما يشير إلى إخفاق المجلس حتى اللحظة في إعادة بناء الثقة مع المواطنين، الذين لا تزال الغالبية العظمى منهم ينظرون إلى المجلس كـ “حلقة زائدة” في تراتبية السلطة.
وفقاً للدستور العراقي وقانون إدارة المحافظات رقم 21لسنة 2008، فقد مُنِحت مجالس المحافظات صلاحيات واسعة فيما يخص التشريعات المحلية، والرقابة الكاملة على أداء الحكومة المحلية، بالإضافة إلى إقرار الموازنات السنوية وخطط التنمية وتمثيل المواطنين.
ولكن ما الذي أنجزه المجلس من كل ذلك؟
يقول نزار اللهيبي، عضو المجلس والمنافس على رئاسته، إن إخفاق رئيس المجلس أثر سلباً على نشاط المجلس من خلال التفرد في اتخاذ القرارات، وعدم الالتزام بالنظام الداخلي، ويعتبر أن هذه هي المشكلة الرئيسية التي تعاني منها الدورة الحالية.

ويُقرّ اللهيبي في حديثه لـ “شرق العراق” بوجود قرارات لم تُنفذ، قائلاً: “لكن غالبية القرارات نُفذت.“
ويصف الناشط السياسي مهدي شعنون الدورة الحالية لمجلس محافظة ديالى بأنها “خيبة أمل كبرى“، لأن المجلس الذي انتُخب بعد توقف دام أربع سنوات، دخل في دوامة صراع على المناصب لأكثر من ستة أشهر، واستمر الصراع حتى بعد تشكيل الحكومة المحلية.
ويرى شعنون أن هذا المشهد سينعكس على الانتخابات المقبلة، وقد يكون سبباً في العزوف عن المشاركة، أو حتى الانخراط في عمليات بيع الأصوات تحت حجج وتبريرات مختلفة.
“حقوق” الانسان
كيف انعكس تعطيل المجلس وانشغاله بخلافه الداخلي على ملف الخدمات وحقوق الإنسان؟
يرى صلاح مهدي، مدير مكتب مفوضية حقوق الإنسان في ديالى، أن المواطن بحاجة ماسة إلى تحسين الخدمات ومراقبة أداء الحكومة المحلية، لكن المجلس منشغل بخلاف سياسي.
لم يُشكل المجلس جميع اللجان المطلوبة، ومنها لجنة حقوق الإنسان، لذلك فإن المفوضية لا تعرف مع من تتواصل وتنسق عملها، ولا إلى من تُرسل تقاريرها وتوصياتها، كما يقول مدير المكتب.
ويضيف مهدي أن المفوضية أصبحت تخاطب الجهات التنفيذية مباشرة، لكن بعض التوصيات تتطلب قرارات تشريعية مُلزمة للحكومة المحلية، مثل تطبيق قرار مجلس الوزراء بشأن تنظيم الرقابة على مراكز الاحتجاز ونصب كاميرات المراقبة، وهي إجراءات تحتاج إلى تخصيص مالي لتنفيذها.
ويُشير أيضًا إلى أن مساعي استحداث مشاريع لتدوير النفايات قد اصطدمت بمعرقلات من الجهات التنفيذية، وتحتاج إلى قرار تشريعي ملزم، متسائلًا بمرارة: “لكن في ظل ضجيج الصراع السياسي، من يهتم بالنفايات، والتدوير، وحقوق الإنسان؟”

تم انتاج هذه التقرير بدعم من مشروع “قريب” برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)