نحالو ديالى .. ترحال مستمر للتحايل على التغيير المناخي
احمد نجم – ديالى
لم يعد إنتاج العسل سهلاً كما في السابق بالنسبة للنحالين في ديالى، إذ يضطر معظمهم إلى حمل صناديق النحل الخشبية مهاجرين من منطقة إلى أخرى طيلة السنة بحثاً عن مراعي نباتية تمكن طوائف النحل من إفراز المزيد من الذهب الأصفر الذي يُعدُّ مصدراً لمعيشة نحو ألفي عائلة في ديالى. كلاً من النحل والنحالين يخوضان صراعاً مشتركاً مع الطبيعة وتغييراتها المناخية، وصراعاً آخر للتكيف مع ما فعلته الأيادي البشرية من عبث بالغطاء النباتي والأشجار المعمرة، وتحويل مساحات شاسعة إلى كتل كونكريت استجابة للطلب المستمر على قطع الأراضي السكنية. قبل أسابيع قليلة، عاد أبو إيناس بخلاياه التي تزيد عن 100 خلية من قضاء بنجوين بمحافظة السليمانية بعد أن ارتحل إليها صيفاً، لكنه عاد من دون أن تنتج طوائفه النحلية غير كميات قليلة جداً من العسل، بعكس السنوات السابقة. “انتجت الخلايا أقل من ثلث ما أنتجته قبل ثلاث سنوات”، يقول أبو إيناس مستغرباً من تراجع الإنتاج رغم الاهتمام والعناية ووجود مرعى طبيعي على جبال بنجوين.
ترحال مستمر
“الرحيق في ديالى صار نادراً”، يقول أبو حيدر وهو يفتح إحدى خلايا النحل في بساتين الهويدر من دون أن يرتدي معدات الوقاية، وكأنه واثق من وفاء النحلات وقدرته على تحمل آلام لسعاتها. ولأن الرحيق نادر، فقد قسم أبو حيدر خلاياه إلى قسمين: القسم الأول، ويضم 40 خلية، وضعها في بساتين الهويدر لتتغذى فقط وتحافظ على حياتها في أشهر الصيف ليتمكن من بيعها كاملة عند اقتراب الشتاء. أما خلاياه الأخرى، وهي أكثر من 100 خلية، فقد تركها في شمال الموصل لتتمكن من إفراز العسل، ويحرص على زيارتها وتفقدها كل أسبوعين.
“في السابق كانت تطلع عندنا أطنان، والآن قلت صارت وزنات (وحدة قياس تقليدية تساوي 20 كيلوغراماً) ، وهاي السنة الإنتاج ما ينذكر أصلاً.” رغم ذلك، يواصل النحال الكفاح في مهنته التي بدأها منذ نحو 40 سنة.
أصبحت دورة حياة النحالين عبارة عن ترحال مستمر يزداد بزيادة الجفاف والتغير المناخي. إذ ينطلقون في فصل الربيع حيث تبدأ بساتين الحمضيات بإنتاج القداح، ثم يتجهون لمراعي الكالبتوز التي تكاد تنقرض في ديالى، ثم يتجهون شمالاً بحثاً عن المراعي الجبلية. في الخريف، تكون مزارع السمسم مرعى مناسباً لإفراز العسل، وفي الشتاء يهاجر البعض لمزارع الباقلاء الشاسعة في الكوت. بعض النحالين أيضاً يعتمدون على مراعي أخرى مثل السدر والبرسيم والجت.
الغطاء النباتي العسلي يتراجع
مع تعدد الأسباب المؤدية لتراجع إنتاج العسل في ديالى، إلا أن جميعها تقريباً تلتقي عند نقطة التغير المناخي وتحويل البساتين إلى محلات سكنية. تراجع الغطاء النباتي مسؤول عن نسبة 80% من تراجع إنتاج العسل، كما يقول علوان المياحي، رئيس جمعية النحالين في ديالى في حديث خاص لشرق العراق، الذي تحدث أيضاً عن تراجع حاد في أشجار الكالبتوز (تعرف شعبياً بالقلم طوز) التي تعتبر واحدة من أهم مصادر الرحيق، فضلاً عن تجريف البساتين وتحويل أراضيها إلى قطع سكنية.
أشجار الكالبتوز كانت تغطي مساحات شاسعة جداً من غابات كنعان (تبلغ مساحتها أكثر من 7000 دونم)، لكنها اليوم مهملة وأشجارها قليلة جداً. كما أن غابات مندلي (بمساحة 11000 دونم) تحولت إلى صحراء لا أثر فيها للون الأخضر.
بالنسبة للنحال أبو حيدر، فهو يعيش مفارقة، فمع أنه يسكن قرية الهويدر التي هي عبارة عن واحة خضراء من البساتين يلتف حولها نهر ديالى من ثلاث جهات، إلا أنه ينقل خلاياه في موسم الربيع لبساتين الحمضيات في الراشدية ببغداد. “الإنتاج هنا صار متقطعاً والبساتين قلت لأن تحولت إلى بيوت وصارت وارداتها أحسن من الزراعة.”
بالنسبة لأشجار الكالبتوز، فقد استخدمها أبو حيدر سابقاً كمراعي عسلية في المنطقة المحيطة بتقاطع القدس ببعقوبة وداخل نادي الفروسية، لكنها اليوم تراجعت وتعرضت للتحطيب وشيدت مكانها محلات تجارية.
كما أن تغير مواسم الأمطار وهطولها خلال الربيع أو بدايات الصيف، كما حصل هذا العام، يتسبب في تنظيف الأزهار من الرحيق، خاصة من أشجار الحمضيات والكالبتوز، مما يترك النحلة بلا غذاء كافٍ لإفراز العسل.
يشكو النحالون أيضاً من المبيدات غير المرخصة التي تُباع للمزارعين لغرض مكافحة محاصيلهم الزراعية، لكن أثرها على أوراق النباتات يستمر لثلاثة أشهر، وتسبب موت مختلف الحشرات والنحل والطيور.
كما أن تغير مواسم الأمطار وهطولها خلال الربيع أو بدايات الصيف، كما حصل هذا العام، يتسبب في تنظيف الأزهار من الرحيق، خاصة من أشجار الحمضيات والكالبتوز، مما يترك النحلة بلا غذاء كافٍ لإفراز العسل.
يشكو النحالون أيضاً من المبيدات غير المرخصة التي تُباع للمزارعين لغرض مكافحة محاصيلهم الزراعية، لكن أثرها على أوراق النباتات يستمر لثلاثة أشهر، وتسبب موت مختلف الحشرات والنحل والطيور.
صعوبات الهجرة
حالياً، يوجد في ديالى حوالي 1200 نحّال مسجلين لدى جمعية النحالين، ويقدّر علوان المياحي، رئيس الجمعية، عدد المشتغلين بمجال النحل بـ 2000 نحّال. لكن هذا العدد أقل من السابق. يقول المياحي: “الكثير من النحالين تركوا المهنة بسبب الجفاف والظروف الأمنية التي أدت إلى التهجير.” كما أن قلة الدعم الحكومي والإنتاج المنخفض للنحل هما سببان إضافيان للتراجع.
لم يعد بمقدور الجمعية دعم النحالين باستثناء تزويدهم بمبيد الفاروا، والفاروا كائن طفيلي يعيش على النحل ويتسبب في موته أو هجرته للخلايا أو ضعف إنتاجه. يقول المياحي إن الدولة كانت تدعم الجمعية سابقاً بالأساسات والخلايا والقروض وغيرها، مما شجع انضمام النحالين للجمعية، أما الآن، فينحصر عمل الجمعية في توزيع مبيد الفاروا وتزويد النحالين بالموافقات الرسمية لنقل الخلايا بين المحافظات.
والكتب الرسمية ضرورية لمرور خلايا النحل عبر السيطرات والنقاط الأمنية، لكنها غير كافية. إذ تحدث معظم النحالين عن فرض رشاوي مالية أو عُلب من العسل مقابل السماح لهم بالمرور عبر السيطرات، خاصةً وأن نقل النحل يجب أن يكون ليلاً فقط بسبب درجات الحرارة المرتفعة نهاراً ولكون النحل خلال ساعات النهار يكون منتشراً في المرعى.
هجرة النحالين ليست دائماً باتجاه الشمال، إذ يضطر بعض النحالين إلى وضع خلاياهم خلال نهاية شهر آب وشهر أيلول في مزارع السمسم بناحية العظيم شمال ديالى. وليد سنجاري واحد من هؤلاء، يقول لـ “شرق العراق”: “الهجرة صارت عكسية. سابقاً خلال موسم الخريف، كنا نهاجر بالنحل إلى زاخو، لكن بسبب التوتر الحدودي مع تركيا، تحولنا إلى الوسط والجنوب.”
يمتلك سنجاري، الذي يعيش في سنجار وورث المهنة من والده ويعمل بها منذ 30 سنة، علاقات وثيقة مع بعض نحالي ديالى يساعدهم عندما يهاجرون شمالاً، ويساعدونه عند هجرته إلى مناطق الوسط.
يقول سنجاري إن معدل إنتاج الخلية من العسل قد انخفض كثيراً. “إنتاج الخلية في الموسم الواحد كان يتراوح من 10 إلى 15 كيلوغراماً، أما الآن فهو بحدود 4 إلى 5 كيلوغرامات فقط.”
يباع الكيلوغرام الواحد من العسل العراقي من 20 ألف دينار وقد يصل إلى 50 ألف دينار حسب جودته ومواسم السنة، فيما يباع العسل المستورد بأسعار أقل بكثير، ليشكل ذلك تحدياً آخر للنحالين. يصل أحياناً سعر الكيلوغرام الواحد من العسل الصيني إلى مبلغ 1000 دينار فقط، بينما يصل سعر العسل الإيراني المستورد أو المهرب إلى مبلغ 2000 دينار. لكن الفارق في جودة العسل المستورد والعسل العراقي شاسع. يقول علوان المياحي إن العسل الرخيص المستورد يكون رديئاً، وينتج من المخلفات الصناعية (السكرين) أو يكون شراب العسل (سكر بطعم العسل).
يقوم بعض النحالين بإعادة تعليب العسل المهرب رخيص الثمن ويبيعونه على أنه عسل عراقي طبيعي، لكن ذلك يشكل مجازفة بسمعة النحال وثقة زبائنه به، ولا يقدم عليها معظمهم. ولا تخضع عملية بيع العسل لخطة تسويقية محددة، إذ يبيع كل نحّال ما ينتجه من العسل لزبائن محليين ومن محافظات أخرى مثل بغداد والبصرة وكربلاء والنجف، كما يقول رئيس جمعية النحالين.
خطوات لأحياء المراعي
يبذل نحال آخر جهودًا كبيرة يسعى من خلالها لإعادة الاعتبار لمراعي العسل في ديالى. عدي الربيعي، نحال وخبير زراعي ويمتلك مشتلاً للنباتات العسلية في ديالى، بدأ منذ عام 2018 بالبحث عن أشجار نحلية في البلدان والمناطق الواقعة ضمن بيئات شبيهة بالبيئة العراقية. جرّب في مزرعته زراعة نحو 80 صنفًا من أشجار الكالبتوس التي تعد أحد أغنى المراعي العسلية.
نجحت لدى الربيعي 28 شجرة في التكيف والمقاومة ضمن البيئة العراقية، ومعظمها أشجار استوردها بشكل خاص من سوريا والهند وتايلاند والسودان والمغرب وأمريكا ووسط أستراليا. تمتاز الأشجار الـ 28 بميزة فريدة حيث إنها تزهر على مدار السنة بالتناوب وليس خلال موسم واحد فقط، مما يمكن الطوائف النحلية، في حالة زراعة الأشجار في مساحات واسعة، من إنتاج العسل على مدار السنة دون الاضطرار للهجرة”.
تمتاز بعض الأشجار بخصائص نادرة، إذ يؤكد الربيعي أن “إحدى أشجار الكالبتوس الأسترالية يمكنها، بعد أن تصل لعمر 5 سنوات، أن توفر الغذاء اللازم لإنتاج 80 كغم من العسل سنويًا. فيما تمتاز شجرة كالبتوس تايلاندية بقدرتها على التزهير وإنتاج الرحيق ثلاث مرات سنويًا، مما يعني توفير مرعى للنحل في ثلاثة مواسم سنويًا. جميع هذه الأشجار مقاومة للجفاف، وبعضها لا يحتاج للسقي إلا مرتين في الشهر، مما يجعلها مناسبة جدًا للبيئة العراقية التي تشح فيها المياه صيفًا. كما أنها توفر على المؤسسات البلدية عناء السقاية اليومية وتكاليف الوقود”. قاد الربيعي مشروعًا بدعم من رجل أعمال عراقي يعيش في بريطانيا لإنتاج مئة ألف شتلة من هذه الأشجار وأشجار الأكاسيا، ويسعى حاليًا لإطلاق حملة استزراع كبرى الشهر المقبل بالتعاون مع زملائه في إحدى المنظمات البيئية.
مائة الف شجرة مغذية للنحل في انتظار حملة الاستزراع
يدرس الربيعي بدقة الأماكن المقترحة للزراعة مثل غابات كنعان والعظيم، ويدعم الحملات التطوعية للزراعة، لكنه يشترط بيع الشتلات للجهات الحكومية بأسعار مناسبة لضمان استدامة المشروع وتوسعته في المواسم المقبلة.
حتى مع كل التحديات التي تواجه النحالون، فإن شغفهم بالمهنة يدفعهم للمزيد من الكفاح. فالعلاقة بين النحلة والنحال يصعب فهمها في سياق المهنة ومصدر العيش فقط، إذ تبدو أكثر من ذلك. فالنحالون مولعون بالحديث عن خلاياهم وتجاربهم بنوع من الشغف والوفاء والإخلاص والحرص، مع الإعجاب البالغ بشدة التنظيم التي تمتاز بها حياة مجتمع النحل وقدرته الإنتاجية الهائلة رغم صغر حجمه. وليس غريبًا أن تترك المهنة شيئًا من صفات التنظيم والمثابرة والكفاح على نفوس أصحابها، فالإنسان غالبًا ما يصنع مهنته ويحدد بعض قوانينها، ثم تعود المهنة لتؤثر فيه وتعيد صياغة شخصيته وتترك بصماتها عليه.