مقالاتناس العراق

ميلاد بلا أجراس… كيف يقضي مسيحيو ديالى عيدهم خارج مدنهم؟

في ديالى، يقتصر الوجود الكنسي على كنيستين فقط، هما كنيسة أم المشورة الصالحة في بعقوبة، وكنيسة أم البشارة في خانقين. ومع تراجع أعداد المسيحيين، تمر المناسبات الدينية الكبرى فيهما بصمت، بينما يختار معظم المسيحيين قضاء ليلة الميلاد خارج المحافظة، في بغداد أو إقليم كردستان أو مناطق التجمع الأكبر في سهل نينوى، حيث لا تزال الطقوس الجماعية ممكنة.

أحد افراد آخر العوائل المسيحية في بعقوبة، الصحفي ثامر يشوع، يقول إن واقع الاحتفال بالميلاد لم يعد مرتبطاً بديالى منذ سنوات: “مسيحيو بغداد عادةً يحيون الاحتفالات والمناسبات في بغداد، والذين لديهم أقارب في عينكاوا وسهل نينوى يذهبون إلى مناطق التجمع الأكبر للمسيحيين، وخصوصاً في مدينة قره قوش، مركز قضاء الحمدانية، التي تضم أكبر تجمع مسيحي، وفيها أكثر من عشر كنائس وكاتدرائيات، فضلاً عن الأديرة الموجودة هناك.”

ويضيف: “أنا والعائلة عادةً نذهب إلى أهلنا في الحمدانية لقضاء العيد ورأس السنة، فهناك للعيد نكهة خاصة.” ويشير يشوع إلى واقع بعقوبة اليوم قائلاً: “عدد العوائل المسيحية المتبقية في بعقوبة أقل من عشرة عوائل.”

الصورة للاستاذ ثامر يشوع في ليلة الميلاد بالحمدانية \ نينوى

هذا التراجع الحاد تؤكده تقارير رسمية فحسب تقرير لمفوضية حقوق الإنسان في العراق صدر في (آذار/مارس 2021)، أكد تراجع عدد المسيحيين في العراق إلى أقل من 250 ألف شخص بعد أن كان يزيد عن مليون ونصف قبل 2003 بسبب الاضطرابات الامنية.

أم سيمون… العيد بعد الرحيل

في خانقين، لم تعد مريم ميخائيل “أم سيمون” تحتفل بالميلاد في مدينتها التي عاشت فيها أكثر من خمسين عاماً. هذا العام، تقضي العيد مع أقاربها في أربيل، بعد انتقالها للعيش هناك مؤخراً.

السيدة مريم ميخائيل “ام سيمون” في اخر منزل لها بقضاء خانقين قبل انتقالها \ عدسة مروان االفجر – ارشيف شرق العراق

تقول أم سيمون لـشرق العراق: “عشت في خانقين 54 سنة بمحبة أهلها لي، لكني لم أرَ أي دعم من الحكومة، كوني المسيحية الوحيدة في القضاء. بقيت أعيش وحدي في بيت للإيجار بوضع اقتصادي صعب، لذلك انتقلت.”

قصتها تمثل نموذجاً لواقع تعيشه بقايا العائلات المسيحية في ديالى، حيث يصبح الاستمرار صعباً في ظل غياب الدعم، وغياب الطقوس الجماعية التي تشكل جزءاً أساسياً من الهوية الدينية والاجتماعية.

كنيسة البشارة… ذاكرة مدينة مهددة

يستعيد المعلم والكاتب المهتم بالتاريخ والتراث محمد أحمد تاريخ الوجود المسيحي في خانقين، مشيراً إلى أن بناء كنيسة البشارة جاء نتيجة ازدياد أعداد المسيحيين بعد تأسيس شركة نفط خانقين عام 1925 ومصفى الوند عام 1927.

صورة حديثة داخل كنيسة البشارة للكلدان في خانقين – عدسة عبدالرحمن محمد

وبحسب أحمد، بُنيت الكنيسة عام 1950 في محلة پاشا كۆپري، على قطعة أرض تبرعت بها سيدة مسيحية تُدعى مريم داود ميخائيل، وصممها المهندس داود حرمل متي، وهي اليوم تابعة لمفتشية آثار وتراث ديالى.

وفي توصيف لواقعها الحالي، يقول الصحفي عبد الرحمن محمد لـشرق إن الكنيسة: “تعرضت للإهمال لفترة طويلة، وبعدها جرت أعمال ترميم لها، إلا أن هذا الترميم لم يُستكمل بالشكل الصحيح. ظهرت الرطوبة في السقف، ما يهدد سلامة المبنى، كما أن محيط الكنيسة الخارجي مليء بالأنقاض، ومجرى النهر المجاور مهمل وتنتشر فيه الأوساخ، الأمر الذي يشوه منظر الكنيسة ويقلل من قيمتها.”

صورة عامة لكنيسة البشارة للكلدان – خانقين \ ارشيف شرق

ويضيف: “على الرغم من وجود أشخاص يرغبون في زيارتها، إلا أن الكنيسة غالباً ما تكون مغلقة، ما يحرم الزائرين من دخولها، إضافة إلى بدء دخول الطيور إلى داخل الكنيسة بسبب الإهمال، وهو ما يزيد من تدهور وضعها. هذا الواقع يتطلب اهتماماً جاداً من الجهات المعنية للحفاظ على هذا المعلم الديني والتاريخي المهم.”

حضور رسمي… ورسالة رمزية

في المقابل، شهد يوم الميلاد لهذا العام حضوراً رسمياً محدوداً من قبل قيادة شرطة ديالى والشرطة المجتمعية وممثلي عن منظمات المجتمع المدني واكاديميين، إذ أكد مدير العلاقات والإعلام في قيادة شرطة ديالى العميد هيثم سلمان الشمري لشرق العراق أن: القيادة تحرص على تعزيز قيم التعايش السلمي والوحدة الوطنية، والمشاركة في جميع المناسبات الدينية والوطنية.

مدير الاعلام والعلاقات في قيادة شرطة ديالى العميد هيثم الشمري خلال زيارته العائلة المسيحية الراعية لكنيسة ام المشورة الصالحة في بعقوبة ميلاد ٢٠٢٥

وشدد الشمري على أن القيادة “لن تدخر جهداً في سبيل الحفاظ على السلم المجتمعي، ونشر روح السلام والرخاء بين جميع أبناء المحافظة”، مؤكداً دعم الأجهزة الأمنية للتنوع الديني واحترام الخصوصيات الدينية للمكونات كافة.

وتأتي هذه الزيارة في وقت تشهد فيه المحافظة تراجعاً كبيراً في أعداد العائلات المسيحية وغياب الاحتفالات الجماعية داخل الكنائس، ما يجعل الحضور الرسمي أقرب إلى رسالة رمزية في ظل واقع ديمغرافي متغير.

العيد في ذاكرة أهل المدينة

ولا يقتصر غياب الميلاد على المسيحيين وحدهم، بل يترك فراغاً في ذاكرة أهل المدينة. إيمان عزت، وهي مسلمة من أهالي بعقوبة القدماء، تستعيد صورة العيد كما عرفتها في طفولتها: “استيقظت صباح يوم الميلاد وتذكرت أيام الصغر. بيتنا كان قريباً من الكنيسة الموجودة إلى الآن مقابل دائرة البلدية. في بداية الثمانينيات، كنت في التاسعة من عمري، أرى القس يدخل الكنيسة ليلة الميلاد، وتتهافت العوائل المسيحية إليها ليبدأ القداس، وكانت الأفراح تملأ المكان.”

كنيسة ام المشورة الصالحة في بعقوبة

وتضيف: “جيراننا وأعز صديقاتي كن مسيحيات، ناس طيبين جداً، لكنهم هاجروا خارج العراق بعد 2003 بسبب الأوضاع الأمنية.”

زيارة فردية… التعايش كفعل

ورغم هذا الغياب، ما تزال بعض المبادرات الفردية تحاول كسر صمت العيد في المدينة. علي اليعقوبي، شاب من أهالي بعقوبة، زار يوم الخميس الموافق عيد الميلاد كنيسة أم المشورة الصالحة الكلدانية، وهنأ الإخوة والأصدقاء المسيحيين بالمناسبة.

يقول علي: “زرت الكنيسة وهنّأت الإخوة والأصدقاء المسيحيين المتواجدين في ال بعيد الميلاد المجيد. السلام والتعايش السلمي لا يقتصران على الكلمات، بل يتحققان بالعدالة والاستقرار الاجتماعي، وقد ورد ذكرهما في القرآن الكريم وباقي الكتب المقدسة، ودعت إليهما جميع الرسالات السماوية.”

ويرى اليعقوبي أن مثل هذه الزيارات تمثل واجباً إنسانياً وأخلاقياً، ورسالة بأن المدينة، رغم تغيرها، ما تزال تتسع للتنوع، حتى وإن تقلص حضوره إلى أفعال فردية.

يقضي مسيحيو ديالى ليلة الميلاد بعيداً عن مدنهم الأصلية

بين كنائس صامتة في ديالى واحتفالات عامرة في قره قوش وأربيل، يعيش مسيحيو المحافظة عيد الميلاد بعيداً عن مدنهم الأصلية. عيد يُحتفل به خارج المكان، فيما تبقى المدن محملة بالذاكرة فقط، وأسئلة مفتوحة عن التنوع، والغياب، ودور الدولة في حماية التعدد الديني داخل المجتمع.

تم انتاج هذا التقرير بدعم من مشروع “قريب” برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى