بيئة ومدينةتقاريرنا

حرفيو سعف النخيل في بهرز: المهنة لا تزال تقاوم الاندثار

داخل ورشةٍ صغيرة في ناحية بهرز، جنوب بعقوبة مركز محافظة ديالى، يجلس أنس محاطاً بأكوامٍ من سعف النخيل الجاف، يعيد تشكيلها بيديه إلى قطعٍ متنوعة من الأثاث، وبمهارةٍ توارثها من عائلته، وأصبح واحداً من أفرادٍ قلائل لا يزالون يمارسونها في ديالى

“بدأتُ هذا العمل منذ كنتُ صغيراً، تعلّمتُه من أبي، وأبي أخذه من جدي”، يقول أنس وهو يشبك قطعةً مصقولةً من السعف داخل سعفةٍ أخرى لصناعة قفصٍ للبلابل.

يعمل أنس، البالغ من العمر 27 عاماً، ممرِّضاً في أحد مستشفيات بعقوبة، وفي المساء يدخل ورشته الصغيرة في الساحة الخلفية لمنزله ليصنع عالماً آخر، يخلق فيه قطع الأثاث الأنيقة من مخلفات النخيل.

“راتب الموظف، بدون مصدر دخلٍ آخر، لا يكفي للمعيشة، خاصةً إن كان الشاب متزوجاً ولديه أطفال”، يقول أنس.

يساعده شقيقه محمد، الطالب في كلية التربية الرياضية، حيث يتقاسم الشقيقان الجهد والوقت للحفاظ على مهنة العائلة التي توارثتها الأجيال.

“أحياناً أعود من الدوام، أرتاح ساعةً أو ساعتين، وأبدأ العمل”، يقول أنس.

أما محمد، فيتفرغ بعد عودته من الجامعة لمساعدة شقيقه، ويقلّ وقت عمله خلال فترة الامتحانات، لكنه طوال العام يحاول التوفيق بين الدراسة والعمل.

اقفاص البلابل

في مشغله البسيط، لا مكان للزينة أو الديكور الصناعي؛ كل شيء مصنوع باليد، وبيديه تحديداً، من الكرسي إلى القفص، وحتى مجسّمات السيارات، وكأنه يستعرض أصالة مهنته وجماليتها وبراعته في إتقانها.

ولكن، رغم الجهد والوقت، لا تعود هذه الحرفة بدخلٍ كبير على من يمتهنها. يتطلّب صنع قفصٍ صغير واحد نحو ساعة ونصف من العمل، ويُباع بثلاثة آلاف دينار (نحو دولارين تقريباً).

يقول أنس بابتسامةٍ متعبة: “عدا كلفة المواد، يبقى لي ألف دينار أو أقل”.

يزدهر عمل الشقيقين في موسم تربية وتكاثر البلابل، من شهر آذار إلى شهر أيلول، ويكاد أن يتوقف عملهما خلال الشتاء.

المواد الاولية

ولا يتوفّر سعف النخيل، المادة الأولية لعمل أنس وشقيقه، طوال السنة.

يقول أنس: “حين يبدأ موسم التمر، يقلّ تكريب النخيل، ويصعب الحصول على السعف. أحياناً ننتظر أسبوعين أو أكثر للحصول على الكمية المطلوبة، ونشتريها من متعهّدين يجمعون السعف بعد تكريب النخيل في البساتين”.

ويضيف أنس لشرق العراق: “في السنوات الأخيرة، قلّ عدد النخيل في المحافظة” وصار الحصول على السعف أصعب وأسعاره اعلى”.

تُعتبر ديالى من أكثر المحافظات تأثّراً بالتغيّرات المناخية ونقص المياه، كما عانت من ظروفٍ أمنية هشّة تسببت بتجريف آلاف البساتين، مما أدى إلى انخفاض عدد النخيل.

يبحث أنس عن سعف النخيل بمواصفاتٍ خاصة، مثل المرونة والقدرة على إعادة تشكيله، وهذه الصفات لا تتوفّر في جميع أنواع النخيل؛ فسعف النخل “الزهدي” يُعتبر الأفضل لهذه الصناعات اليدوية، أما أنواعٌ أخرى مثل “الخستاوي” فسعفها يتكسّر بسهولة ولا يستفيد منه في عمله.

ادوات تقليدية

ولا يزال أنس يستخدم في حرفته هذه ذات الأدوات التقليدية البسيطة والحادّة، والتي تُسبب خطورة في حال عدم إتقان استخدامها؛ فيستخدم المنجل لعزل الخوص عن السعف، والساطور المعروف محلياً بـ “الطبر” لتقطيع الجريد وشقّه، إضافةً إلى “چاكوچ”، وهي المطرقة التي يطرق بها السعف ليتشابك مع بعضه البعض، بالإضافة إلى المقص والمنشار.

وتحمل يد أنس أثراً لا يزال ظاهراً بسبب ضربة خاطئة بالمنجل أثناء العمل، ويتذكّر مبتسماً كيف نجا ذات مرة حين قفز المنجل باتجاه عينه.

ورغم ذلك، يستمر في مهنته الموروثة التي يقول إنها تحتاج إلى التركيز، والصبر، والحب لمواصلتها.

من بهرز الى الخليج

للنخلة قدرة هائلة على العطاء؛ فبالإضافة إلى القيمة الغذائية العالية، والأطعمة المتنوعة التي يدخل التمر في مكوناتها، والمساحات الشاسعة التي يغطيها ظلال النخيل، تُعطي النخلة من سعفها وأليافها وجذعها عدداً كبيراً من الصناعات التقليدية التي استخدمها الأسلاف لقرونٍ طويلة، مثل صناعة الأرائك، وأسرّة النوم، والكراسي، فضلاً عن أقفاص الطيور، والمكانس، والمراوح اليدوية، وسِلال الطعام، والحصائر، والقبعات، والمظلات، وصواني الطعام، والحبال، والأكواخ. ولطالما استخدم الأجداد جذوع النخيل كأعمدة لمنازلهم أو سقوفاً لها.

ومعظم منتجات النخيل هذه فقدت سوقها في منازل العراقيين بسبب الأثاث المستورد، لكنها وجدت سوقاً آخر في المطاعم والمقاهي التراثية، والمزارع الترفيهية التي تبحث عن نكهة الماضي.

يقول أنس: “تصلنا أحياناً طلبات من متعهدين في بغداد، والبصرة، ومحافظات أخرى، وقد بدأت تصل إلى دول الخليج.”

يمتلك أيضاً خبرةً ومهارةً في صناعة الأسرّة والكراسي والكنبات، لكنه توقّف عن ذلك بسبب قلّة الطلب، ويكتفي الآن بصناعتها فقط عندما يُطلب منه ذلك.

“صنعتُ كراسي وكنبات وطاولات تراثية لبعض المقاهي في بعقوبة التي تريد أن تمنح موقعها طابعاً تراثياً”.

أثناء انشغال أنس وشقيقه بجرد سعفات النخيل وصقلها، كان أحد زبائنه القلائل في الانتظار. يريد أبو خليل شراء كراسٍ وكنبتين من سعف النخيل لحديقة منزله في بهرز.

يقول الزبون، وهو يتفحّص بعض قطع الأثاث في الورشة، إنه يحنّ للماضي، ويريد أن يرى في حديقة منزله شيئاً يُذكّره بالتراث ويميّزه عن الولع بالأثاث المستورد.

مقاومة للاندثار

في بعقوبة، لم يعد هناك غير أفرادٍ معدودين يكافحون في هذه المهنة، مما يجعلها من المهن التراثية المهددة بالزوال.

يسعى الناشط في مجال التراث، سامي أبو رية، إلى إنقاذ ما تبقى من المهن اليدوية في بعقوبة. يقول لشرق العراق إن تحدياتٍ كثيرة تواجه استمرارها، أبرزها: “غياب الدعم المادي والمعنوي، إضافة إلى غياب ثقافة المواطن تجاه الصناعات الشعبية، وإعجابه ببهرجة المستورد، خاصة الصيني.”

الصورة من احد المهرجانات التي نظمتها مؤسسة الزيزفون

ويضيف: “لو نأتي إلى الفرق بينهما، سنجد أن المنتج الشعبي العراقي أكثر جمالاً، وأطول عمراً، وأفضل جودة؛ مثل السجاد اليدوي الذي يبقى لعشرات السنين، أما المنتجات المستوردة فلا تعيش أكثر من سنة أو سنتين”.

ويتحدث أبو رية، الذي يترأس مؤسسة “الزيزفون” المعنية بالحفاظ على التراث، بألم عن فقدان أدواتٍ ومهنٍ كانت تملأ مدينة بهرز: “نشأتُ في بيئةٍ غنية بالمهن التراثية، لكن لم ندرك قيمتها إلا بعد زوالها. وقبل سنوات، واجهنا صعوبةً كبيرة في جمع آلة حياكة واحدة، لكنها استُهلكت لعدم وجود مكان دائم لحفظها”.

مركز للحرف اليدوية

تسعى المؤسسة إلى تأسيس مركز الزيزفون للحرف والأعمال اليدوية“، كمشروعٍ يطمح أبو رية إلى أن يكون مزاراً ثقافياً وسوقاً للموروث الشعبي، ويوفر فرص عمل لعشرات النساء والشباب، لكنه لم يجد من يدعم هذا المشروع.

ينطلق أبو رية في مشروعه هذا من رؤيته لأهمية الحفاظ على الموروث الشعبي، وخاصة المهن التي أوشكت على الانقراض، لأنه يعتقد بأن من لا ماضي له، لا حاضر له، وأن على الشعوب أن تفتخر بتراثها وماضيها، وتسعى للحفاظ عليه.“.

تم انتاج هذه القصة الصحفية بدعم من مشروع “قريب” برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى