Uncategorized

 مدينة تختنق بالسيارات.. فوضى النقل العام في بعقوبة

احمد نجم

قبل أكثر من ستة عقود، كانت الباصات الكبيرة التي تنقل المواطنين داخل مدينة بعقوبة منتظمة في مواعيد الانطلاق، ولها محطات توقف محددة لتفريغ وتحميل الراكبين، وكانت تضم لوحات إرشادية بأرقام الباصات ومساراتها، كما يقول البعقوبيون القدماء.
لكن الواقع اليوم لا يمثل امتداداً لذلك التنظيم المبكر الذي شهدته شبكة النقل في المدينة نهاية خمسينيات القرن الماضي، وكأن مسار التقدم قد انحرف، وعقارب الساعة قد عُكست، لتتحول شبكة النقل إلى متاهة من العشوائية تُرهق سكان المدينة.

طيلة العقود الأخيرة تُركت مُدن العراق تنمو وتتوسع، وعدد سكانها يزداد، والسيارات فيها تتكاثر، من دون أي تخطيط مسبق، حتى صارت شوارع المدن تختنق بالسيارات بالمعنى الرمزي نتيجة أعدادها الهائلة، وبالمعنى البيئي نتيجة ما يصدر عنها من ملوثات.

تعتمد شبكة النقل في بعقوبة حاليًا على باصات صغيرة بسعة 11 راكباً، يزيد عمرها عن ثلاثين عاماً، تفتقر إلى التكييف في صيف العراق الساخن، وتعاني من مقاعد وأبواب رديئة. هذه الباصات تتحرك دون مسارات محددة أو محطات ثابتة، وتتوقف عشوائيًا في الشوارع لاستقطاب الركاب، بعيداً عن المرائب الرسمية.

في هذا الوقت، يزداد الاعتماد بشكل مفرط على السيارات الخاصة للتنقل داخل المدينة، وكان آخر إحصاء معلن لعدد السيارات في بعقوبة يعود لعام 2014، قدر أعدادها بـ 73076، ومن المتوقع الآن أن يكون عددها قد تجاوز المائة ألف وربما تضاعف.

ويأتي ذلك أيضًا في وقت تعاني فيه البنى التحتية لشبكة طرق المدينة من الترهل وغياب التوسعة والتخطيط. فوفقا لدراسة قُدمت في جامعة ديالى عام 2016، فإن مجموع مساحة الطرق والشوارع في مدينة بعقوبة قد بلغ 315 كم، توزعت ما بين 8.7 كم طول الشوارع السريعة، و27.8 كم طول الشوارع الرئيسة، و19.7 كم طول الشوارع الشريانية، و39 كم للشوارع الثانوية، بالإضافة إلى 220 كم للطرق المحلية.

وتوصلت الدراسة إلى أن المساحة التي يشغلها النقل بمختلف مرافقه من طرق وساحات وقوف ومرائب متدنية، وهي تمثل أقل من ربع المساحة المفترض أن يشغلها قطاع النقل في أي مدينة حديثة، إذ تشير الدراسات العالمية إلى أن المساحة التي تُخصص للنقل في المدن تتراوح بين 25-30% من المساحة الكلية للمدينة، لكن في بعقوبة تمثل مساحة الشوارع والطرق نحو 6.4% فقط.

باص “المصلحة”

وبحسب المختص بتراث بعقوبة خالد الطائي، فإن أول مظاهر النقل العام في بعقوبة قد بدأ عام 1959 بدخول “باص المصلحة”. ويقول الطائي إن تسمية المصلحة، التي لا تزال متداولة أحياناً، مشتقة من قانون مصلحة الركاب رقم 2 لسنة 1950.
ويشير الطائي إلى أن المدينة شهدت آنذاك عدة خطوط نقل من مركز بعقوبة إلى بهرز، والهويدر، والسادة، والخالص، والمقدادية، بالإضافة للخط الداخلي الذي يبدأ من محطة القطار قرب تقاطع البلدة حالياً، ويمر بمحاذاة نهر خريسان وصولاً إلى قنطرة خليل باشا.

الصورة من الارشيف المنشور للاستاذ خالد الطائي

“كانت الباصات جميلة المظهر ودقيقة المواعيد في الانطلاق والعودة، وتتوقف في أماكن محطات محددة، فقد بُنيت مظلات من حديد فيها كراسي للانتظار، وفيها لوحات إرشادية برقم الباص ومناطق الذهاب”، يضيف الطائي.


بعد أكثر من ستة عقود، تخلو المدينة اليوم من محطات توقف وأماكن للانتظار، وبلا مسارات خاصة بمركبات النقل الجماعي، والمركبات تفتقر إلى أبسط مقومات الجودة.

مركبات رديئة

في نهاية الثمانينيات وكجزء من اصلاح اقتصادي تبنته الدولة آنذاك جرى بيع الباصات الكبيرة التي تملكها الدولة للقطاع الخاص وصارت مسؤولية تنظيم النقل والجباية على البلدية ونقابة للسائقين ثم شكلت عام 1997 هيئة النقل الخاص بسبب الاضطراب الاقتصادي والتضخم الهائل وفقدان السيطرة على اسعار النقل كما يقول الخبير بمجال النقل علي التميمي

“ومنذ ذلك الحين لم تتحدث اجراءات وضوابط عمل تلك الهيئة التي نشأت في تلك ظروف استثنائية” يقول التميمي

وانتعشت هيئة النقل الخاص بعد توقيع مذكرة التفاهم مع الامم المتحدة عام 1996 التي سمحت للعراق استيراد مركبات جديدة استثناء من العقوبات الصارمة المفروضة عليه منذ عام 1990، حيث دخلت الباصات الحديثة التي تتسع ل11 راكبا واختفت تدريجيا الباصات القديمة الاكبر حجما.

ولا تزال معظم تلك الباصات المصنوعة في عقد التسعينات هي المهيمنة على النقل الداخلي في بعقوبة، فجميع تلك المركبات والتي يشاع عنها اطلاق “الكيا” حتى وان كانت من مصنوعة من قبل شركات اخرى خالية من التبريد في صيف العراق اللاهب، كما انها غالبا ما تكون بلا مقاعد مناسبة، وتفتقر لمتطلبات السلامة والنظافة.

خالد سعدون واحدا من سائقي تلك الباصات يبرر اسباب رداءة المركبات في بعقوبة “شغلنا ما يسوى ما نكدر نشتري سيارات حديثة” اما سيارته الحالية فيقول لم تعد صالحة للتطوير واحيانا لا يجد لها قطع غيار مناسبة.

اجرة النقل داخل بعقوبة ثابتة بمبلغ 500 دينار وفي بعض الاحياء البعيدة تكون 1000 دينار

ويشير السائق ايضا الى عبء اخر وهي الجبايات التي تفرضها عليهم هيئة النقل وتتمثل بمبلغ 30 الف دينار سنويا بالإضافة الى 3 ثلاثة الاف تجديد بحث شهري ومن الممكن ان تتراكم هذه المبالغ وتضاف لها غرامات تأخير في حالة عدم التسديد بانتظام.

اضافة لذلك تستقطع من كل مركبة جباية عن كل رحلة بمبلغ 250 دينار لكن ولأن السائقين لا يدخلون المرائب اصبحت مفارز هيئة النقل تستقطع مبالغ تقديرية منهم في الشوارع الرئيسية بعدد الرحلات اليومية المتوقع.

يقول سعدون “مرات يكصولي وصل حتى لو وياي نفرين”

ويشير الى ان سبب عدم الدخول للمرأب يعود الى المواطنين لان لا احد منهم يدخل للمرأب بل يفضلون الانتظار في الشارع لضمان السرعة.

التشريعات القديمة

ويقول الخبير بمجال النقل: “بعد عام 2003 ازداد عدد السيارات بشكل هائل، ولم تتخذ هيئة النقل أي تحديد لذلك، واعتدت على مبدأ المنافسة، وظلت تعمل بنفس آلياتها السابقة دون تحديث.”

وبسبب كثرة عدد المركبات بما لا يتلاءم مع الحاجة الفعلية للسكان، أدى ذلك إلى قلة الإيرادات، فاضطر السائقون للاحتيال من خلال تحميل الراكبين من خارج المرائب والوقوف في الشوارع أو الساحات وغيرها.

وفي الوقت الذي قدم فيه القطاع الخاص تجارب رائدة في مجال خدمات النقل مثل شركات التاكسي، ظل القطاع العام متخلفًا بخطوات كثيرة.
ويرى التميمي أن التشريعات التي تحكم عمل هيئة النقل لا تزال قديمة ولم تخضع للتحديث. ويشير إلى أن الهيئة تركز على زيادة الجباية والإيرادات المالية لأنها تعتمد على التمويل الذاتي، لكنها في نفس الوقت لا تملك أي رؤية أو رغبة لتحديث العمل وتنظيم حركة النقل.

فمثلًا، وبسبب فوضى التحميل والتفريغ من خارج المرائب، وبالتالي عدم دفع العجلات المبالغ المخصصة للجباية، أصبحت الهيئة توجه موظفيها لتنظيم مفارز في الشوارع، في الطرق الداخلية والخارجية، لقطع وصولات الجباية، بدلًا من دراسة أسباب عدم إقبال المواطنين على المرائب النظامية ووضع حلول لمعالجتها.

ويقترح بعض الحلول الممكنة، كـتحديد عدد المركبات لكل خط من خطوط النقل بعد دراسة حركة المسافرين، بما يضمن تحقيق جدوى اقتصادية مناسبة للسائق وتُجبره على الالتزام بالتواجد في المرائب المخصصة للنقل، ويمكن تحديد مواعيد انطلاق بدلًا من الاعتماد على ملء المركبة.

والأهم من ذلك، محاكاة تجارب عالمية ناجحة من خلال تحديد مسارات خاصة في الطرق لسيارات النقل العام، لضمان سرعة الوصول، مما يجعلها ميزة تنافسية تشجع المواطنين على استخدام النقل العام بدلًا من سياراتهم الشخصية، وتُساهم في التقليل من استهلاك الوقود وحماية البيئة.

21 مليون شجرة!

تتحمل كثرة السيارات في شوارع المدن مسؤولية كبيرة في تلوث الجو، فوفقا لقسم مراقبة وتقييم نوعية الهواء في وزارة البيئة فأن انبعاثات المركبات تشكل 60% من مجموع الانبعاثات الملوثة للهواء في بغداد.

تزداد الانبعاثات الصادرة من محركات الاحتراق الداخلي للسيارات كلما كانت المركبات أقدم عمرًا وأقل جودة، وأخطر تلك الانبعاثات تتمثل بأحادي أوكسيد الكربون CO، وأكاسيد النيتروجين، والجسيمات الدقيقة PM2.5، بالإضافة لثاني أوكسيد الكربون.

وبحسب وكالة حماية البيئة الامريكية فإن السيارة الصغيرة الواحدة يصدر عنها سنويًا نحو 4.6 طن من ثاني أوكسيد الكربون،، وللتخلص من هذه الكمية نحتاج لنحو 210 شجرة ناضجة

مما يعني أن عدد السيارات في بعقوبة، التي يُقدّر عددها بنحو مئة ألف سيارة، تحتاج إلى 21 مليون شجرة لحفظ التوازن البيئي ومنع تلوث الهواء.

تتسبب ملوثات الهواء بوفاة 4.2 مليون شخص سنويًا حسب إحصاءات منظمة الصحة العالمية، غالبيتهم بسبب الانسداد الرئوي أو سرطان الرئة، بالإضافة لذلك، تزيد هذه الانبعاثات من الاحتباس الحراري والتغيير المناخي، الذي يُعد العراق واحدًا من أكثر الدول المهددة بمخاطره.

ساعات مهدورة

ويرى المختص بالتخطيط الحضري والعمراني فراس الكروي أن أضرار فوضى النقل وما يتبعها من ازدحامات تزداد بمرور الوقت، أبرزها التأثيرات الاقتصادية لزيادة استهلاك الوقود، بالإضافة لزيادة الملوثات البيئية الصادرة عن المركبات، وخاصة القديمة منها، كما أن ذلك يؤدي إلى هدر عشرات الساعات سنويًا على الأقل في الازدحامات.

ويُعيد الكروي، الذي قدم دراسة عن شبكة الطرق في ديالى، المشكلة إلى ضيق الشوارع ورداءة شبكة الطرق، وعدم تحديث المدن بما يتناسب مع زيادة عدد السكان وعدد السيارات.

ويشير أيضاً إلى مشكلة التخلف التكنولوجي، وعدم الاستفادة من التجارب الإقليمية والعالمية في تنظيم مكاتب الحجوزات للنقل الخارجي، أو استخدام تطبيقات إلكترونية للحجز وتنظيم الرحلات، مثلما يحصل في بعض شركات القطاع الخاص.

“ينبغي أن تُعالج المشكلة في ديالى وبعقوبة تحديداً قبل أن تتفاقم مثلما حصل للعاصمة بغداد”، يقول الكروي، ويُؤشر إلى ضرورة إدارة النمو الحضري بالاتجاه الصحيح. ولا تكمن المشكلة في ضعف التخطيط فحسب، بل انعدامه التام، مما حول المدينة الى حالة من الفوضى، أصبحت الشوارع نقاطاً تتجمع فيها المركبات بشكل عشوائي، يتحدد حسب تدفق الحركة المرورية، وتتوقف حيثما شاءت دون أي تنظيم.

تم انتاج هذه التقرير بدعم من مشروع “قريب” برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى